آيةٌ باهِرةٌ من آيات الله الكبرى ، وجِرْمٌ عظيمٌ من عجائب الكون الْمُعْجِز ، وكوكبٌ سَيّارٌ يَشِعّ بالنّور الْفِضِّيّ السّاطع ، وعالَمٌ واسعٌ يمتلئُ بالغرائب ويعُجّ بالأسرار .
قصّتُه مع الأرض قصّةُ حبٍّ خالدة ، ومَسِيرتُه معها مَسِيرةُ رُفْقَةٍ طويلة ، وعلاقتُه بها علاقةُ وفاءٍ لم تُهِنْها حوادثُ الدّهور .
يُقَبِّلُ جَبينَها منذ أنْ قال اللهُ لها وللسّماء ائْتِيا طَوْعاً أو كَرْهاً . ويُعانِقُ خِصْرَها منذ أنْ زيَّنَ اللهُ السَّماءَ الدّنيا بمصابيحَ وحِفْظاً . ويَضُمّها منذ الأزل تحتَ جَناحه بين حَسْرَة الكواكب وغَيْرَة النّجوم
أحَبَّه النّاسُ لِلُطْفه وخِفَّة دمه ، وعَشِقُوه لجماله وحُسْن منظَرِه ، وتعلَّقوا به لصدقه ووَثيقِ عهده .
اسْتَيْقَنوا إخلاصَه فَبَثُّوه لَواعِجَ صدورِهم ، ووَثِقوا بأمانته فاسْتَوْدَعوه أدقَّ أسْرارِهم ، واطْمأنّوا إِلى عِشْرَته الطَّيّبة فلم يَقُمْ بينَهم وبينَه حِجاب .
بَهَرَ حُسْنُه أقواماً فافْتَتَنوا به وعَبَدُوه من دون خالقه . وقَدَّسَه آخَرون فنَحتوا له تِمثالاً واسْتَوْحَوْا فنَّهم من رَوْعَته . وتجلَّتْ عَظَمتُه لإبراهيم فقال هذا ربّي ، ثمّ عَلِمَ أنَّه ليس ربّاً لأنّه أَفَلَ وهو
لا يُحِبّ الآفِلين .
قَدَّره اللهُ مَنازلَ لِنَعْلَمَ عددَ السّنين والحساب ، وبدأَه هلالاً ليكونَ ميقاتاً للنّاس والحجّ ، وأكْمَلَهُ بَدْراً ليَهْتَدِيَ بنوره السُّراةُ والْمُدْلِجون .
فهو في كلّ أطْواره رحمةٌ ونعمة ، وهو في كلّ مَنازِله بَرَكةٌ وحكمة ، وهو في كلّ أشكاله رَوْعةٌ وجمال .
جَعَله البشرُ أُنْموذَجاً للْبَهاء ووصَفوا به وُجوهَ الْغواني ، واسْتَلْهَموه بدائعَ الشِّعْرِ وكَتَبوا عنه حُلْوَ الأغاني ، وَتَغَزَّلوا في سحره الأخّاد وَتَوَلَّهوا بدلاَلِه الّذي يّسْبِي القلوب .
فإذا تقلّصَ ظِلُّه عند المحَاق وعادَ كالْعُرجون القديم ، تَحَسَّروا على فراقه كما يتحسَّرون على فِراق صديق حميم ، وشَبَّهوا بانتقاصه خريفَ العُمُر عندما يُؤْذِن العُمُرُ بالرَّحيل ، ومثَّلوا بنهايته نهايةَ كلِّ مخلوقٍ بعد قَطْع مِشْواره الطّويل .
وغَارَ العِلْمُ من هذه العلاقة الوطيدة الّتي تَرْبِط الأرضَ بالقمر ، وحَسَدَه على الحبّ الّذي يَحْظَى به من كلّ البشرِ ، فَقَرَّرَ أنْ يَدُقَّ إِسْفيناً في قلب هذه العلاقة ويُكَدِّرَ الصَّفْو ، ويَفُكَّ وثاقَ هذه الرّابطة الْمتينة ويُعَكِّرَ الجوّ . فقال العلم : إنّ القمرَ ذَيْلٌ لغيره غيرُ مُسْتَقِلّ ، وغارِقٌ في بحر الظُّلمات وليس له ظِلّ . يسْتَمدُّ نورَه من الشَّمسِ لِيَعْكِسَه على الأرض ، ويَسْرقُ بضاعتَه من الجيران لِيُوَزِّعَها على الخِلّان .
ولم تَنْجحِ الوِشايةُ في قطْع ما وَصَلَتْه ملايينُ السّنين . ولم تُفْلِحِ الدّسِيسة في إخْماد جَذْوَة الحبّ المكين ، فقال الإنسان : لا يَضِيرُ الحسْناءَ أنْ تَتَحَلَّى بزينةٍ تَسْتَعيرُها ، ولا يقْدَحُ في المِرْآة أنْ تَعْكِسَ النّورَ الْوَافِدَ على سَطحها ، ولا يُسئُ إِلى الكريم أنْ يُعطِيَ ما يأخُذُ ويُوزِّعَ ما يَجْمَع .
وسُقِطَ في يد العلم لأنّه فَشِلَ في زَرْع الْوقيعَة ، واجْتَهَدَ في دراسة الأفلاك حتّى يُفْلِحَ في بَثّ الْقطيعة ، واكْتَشَفَ أنّ القمرَ يَخْدَعُ النّاسَ بوجهه المليح وقُرْصِه البديع ، ويفْتِنُ القومَ بصَفائه الرّائق وسِحْرهِ الخَلّاب ، وفَجَّرَ قُنْبُلَتَه بأنّ القمرَ في حقيقته كالِحُ الوجه مُقَطَّبُ الجبين ، قَفْرٌ مُوحِشٌ يَلُفُّه صَمْتٌ رهيب ، قاحِلُ التُّرْبَة ضعيفُ الجاذبيّة ، فاقدُ الماء والهواء ، ولا يمكن فيه للإنسان اسْتِقرارٌ وبَقَاء .
ولم يتأثّرِ القمرُ باكتشاف العلم ولم يُعِرْهُ اهتماماً ، ولم ير فيه نهايةً لعِزّه ولا لأُسْطُورته خِتاماً ، إذ لا يُهِمُّ النّاسَ ضَعْفُ جاذِبِيّته ما دام يَجْذِبُهم بسحره وجماله ، ولا ينقُصُ من حبّهم إيّاه جَفافُ أرضه وقَحالةُ تُربته ، لأنّه ليس مَزْرعةً يرجون اسْتِصْلاحَها ، ولا غابةً يَبْغُون الاستمتاعَ بخُضْرتِها وكَثافةِ أشجارها .
وأدركَ العلمُ أنّ حقائقَه عن القمر لا تقْطَع عِشْق البشر له ما دام نائياً عن أنظارهم ، وأنَّ كلَّ ما يقوله عنه لا يَجِدُ صَدًى في نفوسهم ما دام غيرَ ملموسٍ بأيديهم ، فعَصَرَ دِمَاغَه وجَنَّدَ أربابَه لكيْ يتغلَّبَ على بُعد المسافة الّتي تَفْصِلُ الأرضَ عن القمر ، واسْتَجْمَع عَبْقَرِيَّتَه وعَبَّأَ بُحوثَه لكيْ يُفْلِتَ من شَدّ الجاذِبيّة وينْطَلِقَ في الفضاء الرَّحْب ، وَوَصَل إِلى أنّه يستطيع أن يأخذَ الإنسانَ في رِحْلَةٍ لِيَطَأَ بِرِجْلَيْه تُرْبَتَه القاحِلَة ، ويَجوسَ بنفسه خِلالَ هِضَابِه الْقَفْرَةِ وأوْدِيَته الْمُوحِشة ، ويرى بِعينيْه سِباحَتَه في نهر الظّلمات والْتِفَافَهُ بالصَّمْت الرّهيب الّذي يُشْبِه صَمْتَ الأموات .
وأَيْقنَ القمرُ أنّ الأمرَ هذه المرَّةَ جِدٌّ لا هَزْلَ فيه ، فلم يَجِدْ رَدّاً على العلم ولم يسْتطعْ أن يُكَذِّبَ ما يَدَّعِيه ، وعَلِمَ أنّ زَمانَ عِزّهِ قد آذنَ بالغروب ، وأنّ أيّام دَلاَلِه قد قارَبتِ النّهاية ، وأنّ قصّةَ حُبِّه مع الأرض تُوِشكُ أنْ تصلَ إِلى آخر فصولها .
فسَيصلُ الإنسانُ إِلى القمر يُدَنِّسُه بشروره ويَصِمُه بعُيُوبه ، وسيجعلُه مجالاً لصراعاته وميداناً لحروبه ن وستُدَمِّرُه الْأَثَرَةُ وتُهْلِكُه الشّهواتُ والأطماع ، وسَتَنْتَقِلُ إليه مآسي الأرض ووسائلُ الخُبْث والخِداع .
فتَبّاً للإنسان الباغي لاَ يَلْمَسُ شيئاً نظيفاً إِلاَّ لَوَّثَهُ برِجْسِه ، ولا يفتح فَاهُ الْهَلوعَ لخيرٍ إِلاَّ الْتَهَمَه بجَشَعِه ، ولا تَتَطلّعُ عينُه إِلى جمالٍ إِلاَّ شَوَّهَهُ بحقده .
وخِزْياً لِنَزْعَة الاسْتعباد لا تَحُلُّ بكوكبٍ إِلاَّ بَدَّلَتْ هناءَه شَقاءً ، وجَعَلَتْ جنَّتَه جحيماً ، وقَلَبَتْ هدوءَه اضطراباً ، وحَوَّلَتْ سَلامَه حَرْباً .