نحن نعيش الآن لحظات الانتظار لعيد الأضحى السّعيد, ونستعد لاستقبال هذا الضّيف العزيز الّذي يُوافينا كلَّ سنة بزيارته الكريمة ومعه هديّةُ سَنِيَّةُ تتعبّد بها أرواحنا, وتسعد بها قلوبنا, وتهشُّ لها بطونُنا, ويفرح بها صغارنا وكبارنا.
إنّ الأضحية تتجاوز في دلالتها كبشا أو خروفا تسيل دماؤه يوم لعيد, ونستمتع بلحمه الشهي شيّاً وطبخا, وتحمل في طياتها مع معاني التعبد واتباع السنة والفرح والسرور, معنى إنسانيا عظيما خالدا لم تستغن عنه البشرية في أي طور من أطوارها, ولن تستغني عنه في يوم من الأيام, لأنه سر بقائها وتقدمها واستمرارها في طريق التطور والنمو, ونعني به التضحية ذات الأبعاد الأخلاقية والإنسانية الخلاّقة, وذات الارتباط الوثيق بوجود الحياة ما دامت حياة على وجه الأرض.
إنّ التضحية كانت ولا تزال وراء كل نجاح إنساني منذ أن خلق الله الإنسان, وكانت الشرارة المباركة التي ولّدت الطاقة لكل اندفاع إلى الأمام, والقوة التي حركت العمل لكل نهضة وحضارة, وكانت الثمن اللازم الذي يجب أن يدفعه الإنسان لكي يحتفظ بوجوده المحترم وكيانه الكريم, ويحقق رسالة استخلافه في الأرض على الوجه الأكمل.
إنّ تاريخ الإنسانية لم يعرف انتصارا للحق المبين على الباطل الزهوق, إلا بتضحية أصحاب الحق, ولا هزيمة لجيش الظّلام إلا بتضحية الحاملين لمشاعل النّور, ولا غلبة على جحافل الظلم والبغي والفساد إلا بتضحية أصحاب القلوب الكبيرة, والنيات الطيبة, والمؤمنين بمبادئ الفضيلة والعدل وحقوق الإنسان. والذين تخلوا عن التضحيات, وبخلوا عن دفع ثمنها المطلوب, وضعفوا عن حمل مسؤوليتها الثقيلة, تخلوا عن إنسانيتهم وكرامتهم, وفتحوا بأيديهم على أنفسهم أبوابا من المهانة والإذلال والانحطاط, واستَباحهم كل دَعيّ, واستعبدهم كل بَغيّ, ورضوا لأنفسهم بمكان المؤخرة والتخلف .
إنّ أي مجال من مجالات الحياة لا يمكن أن يحقق تقدما ويكسب نجاحا, من غير وقود التضحية, فالعلم لا يتقدم إلا بالتضحية, بالجهد المضني, والوقت الثمين والمال الوفير, والقبر الجميل, وكم سمعنا من علماء تضرروا كثيرا أو فقدوا حياتهم في سبيل الوصول إلى عقار ينقذ حياة الملايين من أوبئة فتاكة قاتلة, أو يخفف آلام المرضى من أمراض مستوطنة مزمنة, أو بسبب تعرضهم لسموم أو انفجارات أو إشعاعات نووية, أو بقيامهم بتجارب في اكتشاف الفضاء . وكذلك المحامون عن حمى أوطانهم, المقاومون غازيا لبلادهم ومحتلا أو ظالما مستبدا, فيخرج الواحد منهم من القتال وهو مصاب بعاهة مستديمة تقعده عن العمل, أو فاقدُ لعضو من أعضائه, أو مقدمُ حياته من أجل أن يحيا شعبه عزيزا كريما, ومثلهم رجال الأمن الذين يطارون عتاة المجرمين و قطاع الطرق ومهربي المخدرات, ويضحون بحياتهم في سبيل أن تسلم بلادهم من الشرور والعدوان والموبقات, ويعيش مواطنوهم في طمأنينة واستقرار وأمن على أرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم.
وهكذا تسري التضحية في كل جوانب الحياة ومرافقها كما تسري الروح في الجسد, وتتوقف عليها حركة النمو والتطور والتقدم كما تتوقف حركة الرئتين على الهواء, ولا يمكن أن تسود الفضائل الأخلاقية من العدل والحق والخير والسلام والالتزام بالواجب وطاعة الله, بلا حماية لها بسور التضحية.
وكل هذه المعاني النبيلة التي توحي بها إلينا التضحية, ويدلنا عليها رمزها العظيم, يذكرنا بها عيد الأضحى الذي يحي في نفوسنا تضحية سيدنا إبراهيم الخليل – عليه السلام- حين اختُبِر بأمر الله له بأن يذبح ابنه إسماعيل – عليه السلام- , وكان امتحانا شديدا بمقاييسنا المعتادة, إذ لو أُمر بذبح نفسه , لهان الأمر عليه, حيث تقدمت به السن , وبلغ من الكبر عتيا, وذاق الكثير من حلو الحياة ومرها, ولم يعد عنده ما يحرص عليه من حياته, ويكفيه أن يكون ابنه إسماعيل امتدادا له من بعده, ولو كان له ذرية غير إسماعيل لخفف الامتحان من ألمه شيئا, إذ لها ما يعوض إسماعيل, أما أن يؤمر بذبح ابنه الذي رزقه بعد شوق عارم, وانتظار طويل, وقرت به عينه وهو على كبر, فذلك هو البلاء العظيم. لكن إبراهيم -عليه السلام- كان أمة قانتا لله حنيفا, فلم يتردد في تنفيذ أمر ربه, مضحيا بأعز ما يملك, ومعرضا قلبه للسكين قبل أن يعرضها لرقبة ابنه, امتثالا لأمر الله, وقياما بالواجب المقدس, وكافأه الله على عمق إيمانه وتصديقه للرؤيا, ففدى إسماعيل –عليه السلام- بذبح عظيم, وأحييت هذه القصة الخالدة في عيد المسلمين يأتي كل عام لينبه الغافلين عن التضحية في سبيل الله الواجب أن أفيقوا, ويهز الناسين لها في زحمة الحياة أن تذكروا, وينذر القابضين أيديهم بالشح عن دفع ثمنها أن احذروا, ويبرزها رمزا معبرا موحيا في مناسبة دينية واجتماعية عظيمة, ويدلهم على أنها المفتاح الذي يفتحون به أبواب العزة والكرامة والوجود المحترم, ويسترجعون به الحق المغصوب والأرض المنهوبة, ويفتحون به مجالات الرفعة والسؤدد والتقدم, وينتصرون به للمثل العليا والقيم الإنسانية الفاضلة وحقوق الإنسان المشروعة.
وإذا أصمَّ القوم آذانهم عن سماع صوت رمز العيد, ولم يتعظوا بإيحائه لهم عن قيمة التضحية وضرورتها, وأكلوا الأضاحي لحما شهيا شبعت به بطونهم ولم تشبع قلوبهم, عاد العيد في عام قادم وأعوام قادمة, وجدد لهم تذكيره بالتضحية وأسمعهم صوتها الملحّ. فإذا استمرُّوا على الغفلة, واستمرأوا الكسل, فلا لوم بعد ذلك على العيد الرائد الذي لا يكذب أهله, والنصاح الأمين الذي يغش قومه, وليتحملوا مسؤولية قعودهم وإهمالهم وغفلتهم, ولا ينتظروا استرجاعا للحق والكرامة في غيبة التضحية والعجز عن حمل عبئها.
( سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين)
الشيخ العلامة : عبد اللطيف الشويرف
3/12/1976م