أخو البَداوةِ تَنفَّسَ هواءَها النَّقِيّ ، ورفيقُ الجبل تَرَعْرَعَ في رُبوعه الخُضْر ، وابنُ العُروبة رَضَعَ من لِبانِها الحُرّ ، وطالِبُ (الزّاوية) تَتَلْمَذَ في مدرسة القرآن .
لم يتخرّجْ في كلّيّةٍ سوى كلّيّةِ الحياة ، ولم يتلَقَّ توجيهاً غيرَ توجيه السَّماء ، ولم يتشَبَّع بروحٍ سوى روح الإسلام وسِيرَةِ رسوله الكريم .
قائدٌ مِغْوارٌ وإنْ لم تُثْقِلْ صدرَهُ الأوْسِمَةُ والنَّياشينُ ، وعسكريٌّ عَبْقَريٌّ وإنْ لم ترتَفِعْ على عاتقه التّيجانُ والنّجوم ، ومقاتِلٌ مُحَنَّكٌ وإنْ لم يحمِلْ شهادةَ الأركان .
اقْتَحَمَ المعاركَ الضّاريةَ بقلب الشّجعان ، وناضلَ العدوَّ الباغيَ بقوّة الحقّ المبين ، وتَسلَّحَ بالإيمان والثّقةِ بالله قبل أنْ يتسلَّحَ بسلاح النّار والحديد .
أمَرَه دينُه بالجهاد فَنَفَرَ ولم يَثَّاقَلْ إِلى الأرض كما يثَّاقَلْ المنافقون ، وأغْرَتْه الآخرةُ بنعيمها فآثَرَها ولم يسْتَبْدلْ بها مَتاعَ الدّنيا كما يفعل الْمُتْرَفون ، ودعاه وطنُه إِلى التّضحية فلَبَّى ولم يَبْخَلْ عليه بثمن كما يبخَل الخانِعون ، وأَبَتْ نفسُه عليه أن تُضامَ وتُسْتَصْغَرَ لأنّه حرٌّ ، والحرُّ لا يَبيتُ على ضَيْمٍ ولا ينام على صَغار .
ما كان يخشَى إنْ نَزَلَ على الموت أو نَزَلَ الموتُ عليه ، وما كان يُفَضِّلُ أنْ تُكْتَبَ له السَّلامةُ على أن يُكْتَبَ في سِجِلّ الشّهداء ، وما كان يَسْألُ أجراً على جهاده من أحد لأنّه كان يَحْتَسِب أجرَه عند الله .
كان تقيّاً يَشِعُّ نورُ الإيمان من وَجْنَتَيْه ، وكان سَمْحاً تُطِلُّ براءةُ قلبه من عينيْه ، وكان مَهيباً تنطِقُ ملامحُ وجهه بالوَقار ، وكان جليلاً يُذكِّرُك منظرُه بسَلَف الأمّة الأطهار .
كان عزيزَ النّفس لم يَبْتَذِلْها لمخلوق ، وكان نظيفَ اليد لم يُلَوِّثْها بكسْبٍ حرام ، وكان طاهرَ الذّيْل لم يُشَوِّهْهُ برذيلة .
كان حَيِيّاً كحياء الحسناء في خِدْرِها ، وكان وَرِعاً لا يدخُلُ البيوتَ من غير أبوابها ، وكان مُتواضعاً لا يُمَيِّزُه الغريبُ عن رِفاقه الميامين .
كان صافيَ السّريرة كصَفاء السّماء من فوقِه ، وكان كريمَ الْجِبِلَّة ككرم الطّبيعة البِكْر مِنْ حوْلِه ، وكان لَطيفَ الْمَعْشَرِ يَسَعُ كلَّ النَّاس بمعروفه .
لكنَّه كان مع أعدائه شديداً يجدون فيه غِلْظَة ، وكان في موقفه منهم عنيداً لا تلينُ له قَناة ، وكان في حربه عليهم جحيماً يَصُبُّ من فوق رؤوسهم الحميم ، وكان لهم شَبَحاً مُرْعِباً باللّيل وهاجِساً مُفْزِعاً بالنَّهار .
كان هادئَ الطّبع ، لكنّه كان في المعركة بُرْكاناً ثائراً يَرْمِي بالشَّرَر . وكان كثيرَ الصَّمْت ، لكنّه كان يُجيدُ بلغة الرّصاص كلاماً ينطِقُ بالدُّرَر . وكان مُثْقَلاً بِحِمْل السّنين ، لكنّه كان يندفع في القتال بنشاطٍ يَعْجزُ عنه ابنُ العشرين .
كان جَلْداً لا تَنالُ من عَزْمه نَكباتُ الزّمان . وكان حكيماً يرى الأُمورَ بمِنْظار العقل السّديد . وكان رزيناً لا يَسْتَخِفُّه نَصْرٌ ولا تُخْرِجُه عن طَوْره هزيمة .
هدَّدَهُ أعداؤُه بالبأْس والتّنكيل إنْ لم يكُفَّ عنهم فقال : ( وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ) . وأَغْرَوْهُ بالمال والمنْصِب إنْ مالَ إليهم فقال : ( وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) وَوَعدوه بالنّجاة من الموت إنِ اسْتَسْلَمَ لهم فقال : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابَاً مُّؤَجَّلا ) .
وَلَمَّا حُمَّ القضاءُ وحانَ وقتُ الرُّجْعَى والإياب ، وقَرُبتْ نهايةُ الأجل ولكلّ أجلٍ كتاب ، هَوَى البطلُ الصِّنْديدُ كما يَهْوِي النّجمُ الثّاقبُ يَرْجُمُ الشّياطين ، وسَقَطَ الفارسُ الجسورُ عن فَرَسِه كما يَسْقُط الشّجاعُ مَرْفوعَ الجبين ، ووقَعَ الأسدُ في شَرَكِ الخديعة بعد أن عَجَزوا عنه في حَوْمَة النِّزال.
وقيَّدوا يَدَي الغَضَنْفَرِ ورِجْلَيْهِ بالأغلال ولم يُقيِّدوا إرادَتَه ، وحَبَسوا الصَّقْرَ الحُرَّ في القَفَص وَلَم يَحْبِسوا روحَه ، وأسْكتوا بُنْدُقِيَّةَ المجاهد الجريء ولم يُسْكِتُوا صوتَ رمْزِه العظيم.
وظنَّ آسِرُوه أنَّهم طَوَوْا صفحتَه ، وما عَلِموا أنَّهم جَعلوه كتاباً مفتوحاً لكلّ الأجيال . وتوهَّمُوا أنّهم أخْمَدُوا جَذْوَتَه ، وما دَرَوْا أنّهم أضْرَموها في خَبايا النّفوس . وحَسِبوا أنَّهم رَسَمُوا خطّاً لنهايته ، وجَهِلوا أنّهم كتبوا له الحياة وأَدْرجوه في قائِمة الخالدين.
وقابلَ البطلُ المِحنةَ كما يُقابِلها أُولُو العَزْم ، وثَبَتَ في أَسْرِه كما يَثْبُتُ الجبلُ الأخضرُ الأشَمّ ، واحْتَفَظَ برَباطَة جَأْشِه حتّى لكأنَّ السَّكينةَ سَكَنَتْ فيه ، وظلَّ الإيمانُ يَعْمُرُ قَلْبَه فما وَهَنَ لِمَا أصابه في سبيل الله وما اسْتكانَ لجلَّاديه.
واسْتَشْعَرَ وهو في سجنه الأُنْسَ يَغْمُرُ وِجْدَانَه على الرّغم من وَحْشَةِ وَحْدَتِه ، وشَمَّ عبيرَ الجنَّة يُعَطِّرُ جَوَّهُ على الرّغم من اختناق زَنْزانَتِه ، وتمثَّلَ أمَامَه مَنْ سَبقوه على دَرْب النّور ، فَعَظُمَ شَوْقُه للالتحاق بالأحياء الّذين عند ربّهم يُرْزَقون.
ونافَقَ سفّاحوه العدالةَ فحاكموه محاكمة خِداع ، وادَّعَوُا الرَّحمةَ زَيْفاً فمنحوه حقَّ الدّفاع ، فكانت منهم تمثيليَّةً سيّئةَ التّأليف والإخراج ، ومَهْزَلَةً مفضوحةً ثقيلةَ الظّلّ والمِزاج ، وتصويراً ردئَ الالتقاط ، قَبيحَ الطّبْع ، خبيثَ التّحميض.
ونَضَبَتْ وُجوهُهم من ماء الحياء فَرَمَوْه بالخيانة ولم يَخْجَلوا من شَيْبَته ، واشْتَطّوا في التّعصُّب والحقد فاتّهموه بإخلاصه وأدانوه بوطنيّته ، وداسوا على شرف الجنديّة وأخلاق الفروسيّة فقضَوْا عليه بالموت وهو الأعْزَلُ الأسير.
ونَصَبوا الأعوادَ لتعليقهِ فكأنّهم على هامات المجد رَفَعوه ، ولَفُّوا الحبل حول عُنُقه فكأنّهم بإكلال الشَّرف طوَّقوه ، وودَّعتْه النِّسوةُ بزَغارِيدها فكأنَّهم إِلى عِرْس زَفُّوه.
فهو عُلُوٌّ في الحياة وفي الممات ، وحُرّيّةٌ في الأَسْر ويُسْرٌ في العُسْر ، ونِعمةٌ في النِّقمة ونورٌ في الظُّلمة ، ورَحابَةٌ في الضّيق وبَرْدٌ في الحريق.
وأخيراً ذهبَ الحمارُ بأُمّ عَمْرو وبَقِيَ عُمَر ، وانتزَعَتْ يدُ البغْي الزّهرةَ ولم تَقْضِ على شَذَا العِطْر ، وفرّتْ جحافِلُ الظّلام يُطارِدُها ضوءُ الفجر الجديد.
وانتصر أحفادُ المختار وأخَذوا له بالثَّأر ، وانْجَلَتْ سحائبُ الغُمّة وظهرتْ شمسُ النّهار ، وباءَ السّفّاحون بلعنة التّاريخ وفَرِحَ المؤمنون بنصر الله.
فاتِّخِذوا من ذكرى عمر المختار عبرةً فإنّ الذّكرى تنفعُ المؤمنين ، واقْتَبِسوا من سيرته دروساً فإنّه مِثالٌ لصدق المجاهدين ، وكُونوا به بَارِّين بالسَّيْر على منهاجه ، والتّشبُّع بروحه في التّضحية والفداء.
ورحمةً من الله تتنزّلُ على روح شيخ الشُّهداء في يوم ذكراه ، وسلاماً عليه يومَ وُلِد ويومَ استُشْهِد ويومَ يَبْعَثُه مولاه.